الجنون الجميل



بعد مساء شاق في الحي الجامعي، قضيناه منهكين في المكتبة بين المراجعة والثرثرة في صمت، كنا نجلس خمسة زملاء أو أكثر، وفجأة صرخ أحد الطلبة القاعديين (من البرنامج المرحلي) حيى الشهداء والمعتقلين، وراح يخطب في جموع الصم ويرقص لفيلق من العميان، يثور غضبا، لقد وجد عقاب سيجارة في فنجان الحريرة. يهمس إلى جانبي رهط يقولون إنه وضعه عمدا لإثارة الضجة. معروف على الرفاق هذه الافتعالات المشبوهة، قيل إنهم يوما ادعوا أنهم وجدوا حذاء في فنجان الحريرة؛ صدق أو لا تصدق حجم الحذاء أكبر من حجم الفنجان لكنهم وجدوه بداخله، وقد سجل التاريخ ذلك في سجل مكتسباتهم العظيمة.
وبعد ساعتين من النقاش الساخن بين مناضلي أوطم المشحون بالمناوشات بين الرجعيين والعدليين، تحولت قضية الحريرة إلى قضية السكن الجامعي والمنحة وتاريخ الامتحان، فاستبشر الطلبة خيرا ولم تحل قضية وشرب الطلبة الحريرة، وضاع الوعيد والقسم. هراء.
كنا ــ حوالي منتصف الليل ــ عائدين من الحي إلى بيتنا؛ عبد المجيد وسقسق وأنا. كان سقسق يصرخ ضاحكا؛ تبا لهذا المدير (مدير الحي الجامعي) إنه لا ديمقراطي لا حيي لا منحتي، يختم كلامه بضحكة تعكسها الجدران فيرتعد الجيران. كنا نضحك معه بجنون. صحيح. إنه اللاحيي. صار فيما بعد اللاحيي لقب لسقسق.
على هذا النحو من الجنون الطلابي الجميل وصلنا إلى بيتنا تحت سماء الله فوق نتانة العبد. بادر عبد  المجيد لإعداد عشاء لذيذ وغير مكلف، فكان أن حضر أرزا بالزيتون وسمكة التون، أفرغ المحتوى في الصحن وبدأت المعركة، كانا يأكلان الأرز بالخبز ولم أكن أحبه كذلك، كنت آكل بملعقتي العوجاء، وفي الختام تفاح منخور بالدود مبقور بمناقير الطيور الجميلة، جلبناه من الحي الجامعي. كنا نسميه تفاح عباس.
انتهينا من الأكل. أخرجنا الأواني إلى السطح، كنا نستعد لنوم لذيذ ونحن نتبادل الكلام الجميل حول الحب والمجون والجميل من الجنون. سقسق تكون له كل مساء معجبة أو أكثر، لكنه لا يجد تلك التي يبحث عنها، كيفما كانت لكنه لم يجدها. إنه الحياء الجميل.إن شئتم هو التحدي والعناد. لن أركع حتى تسجد. الحب درس نظري وليس تطبيقي.
استلقى كل واحد منا في مكانه، نستنشق مقطعا موسيقيا لأصالة نصري ( مخادع مبايع قلبك حجر ...) أخرج سقسق فرشاته وراح ينظف أسنانه، خرج ليبسق رغوة المعجون ولكن عاد مسرعا ضاحكا مازجا بين الغضب والمزاح.
ــ إنه يطل ؟؟ يتجسس علينا.
ــ من يتجسس يا سقسق. يهديك الله.
وضع الفرشاة على الطاولة في زاوية البيت وأمسك مقلاة في يده.
ــ سأفجر رأسه. إنه يتجسس علينا، يعتقد أننا نسكر ونظل ساهرين حتى الصباح، إنه يقول علينا البهتان،
 يتهمنا دائما باستقدام البغايا إلى بيتنا.
كان يسكن بجوارنا جار لئيم وبخيل. من رجال الاستخبارات ــ كما علمنا ــ يكرهنا حتى انه لا يعرفنا. الكراهية بالفطرة. قيل إنه عاد يوما من العمل رفقة زوجته فوجدا طالبا مع ابنتهما في فراش الزوجية، عاقباه أن أخرجاه من الباب بعدما دخل من السطح. أهانوه بذلك. ومن ذلك الحين يكره الطلبة. وتزر الوازرة وزر أخرى.
ضحك عبد المجيد وهو يمضغ لقمة خبز حافية في زمن الأخطاء، كانت عادته أن يأكل لقمة خبز حافية وهو يهم للنوم. شجعناه وحييناه. نعم لئيم هذا الجار. كنا غارقين في ضحك هيستيري. بدأ سقسق يضربه في خياله بتلك المقلاة. سأضربه هكذا.. ثم هكذا.. وسأهوي عليه بعده هكذا..يخبط في الهواء ويستعرض عضلاته. كنا نصحح له. لا تفعل هكذا.. فيفعل هو هكذا.. حمسنا سقسق وخرجنا إلى السطح. كنا ببذل النوم التقليدية. نحن مناظلين عظام لا خوف يرهبنا ولا مديونا يخيفنا.
ــ انظر إنه  مازال هناك. ابن ..، أمسكت شقف ياجورة كان هناك. قلت لسقسق:
ــ أنا من يضرب أولا
ــ لا لا أنا يا غزغوزتي.
 بدأ سقسق يشتم الرجل ويسخر من مؤخرات بناته وشيخوخة زوجته ومهنته الخبيثة، كان يظهر رأسه كشبح في ذلك الظلام الخافت. عبد المجيد واقف في الباب يضحك بجنون. دنوت خطوة إلى الأمام وهويت بالشقف على الجدار. فانسل القط الأسود هاربا صوب سطح الجيران. صاح سقسق:
ــ هااا ذ موش ( آه إنه قط)
ضحكنا حتى دمعت أعيننا، وعدنا إلى البيت وسقسق يتمنى لو يمسكه حتى وهو قط.