معروف والسنابل الشاحبة

                                       
       كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بكثير، وكان صديقي الوسيم "معروف" قد نال منه الكلل وهو يراجع دروس التربية والتكوين. تاه تفكيره حتى سقط الحاسوب من بين يديه، كان يتخيل عندليبا جميلا يحط على شباك النافذة ويغني له أجمل الأغاني، وتارة يتخيل حمامة بيضاء تهدل بشرى خير. انتابه نوم عميق وهو يتنفس بهدوء، لكن الهواء الخفيف الذي يتدفق من النافذة ويصفعه على وجهه منعه من النوم.
أنين وهمهمات... أماه أماه
انتصب معروف واقفا وأطل من النافذة إذا بعجوز شمطاء في الشارع بين الذهاب والجيئة تئن وبنغمة البكاء تنادي أماه أماه.
رق قلب صديقي فإذا هو أشد قساوة من الحجارة، أمعن النظر فيها حتى اتجهت صوب ضوء المصباح الكبير الذي يضيء الشارع فإذا هي جارته المسكينة التي يجدها دائما جالسة عند الباب ذات العقود السبعة والوجه المتجعد والعين الحولاء، أسرع في سلم المنزل حتى بلغها وضع يده برفق على كتفها.
  ماذا حدث يا حاجّة؟ هل طردوك؟
-ـ أماه ..أماه ..أماه
-ـ تعالي إلى البيت.
حاول أن يرسلها إلى بيتها إلا أنها أسرعت وصعدت السلم قاصدة غرفته. لم يجد معروف في ذلك حرجا فهي عجوز تحتاج لمن يرأف بحالها.
بداية النحس غالبا ما تكون لها مؤشرات. ما إن وطأت رجلاها الغرفة حتى تعطل المصباح فخيم على الغرفة الصغيرة الظلام إلا قليلا من الضوء الضبابي الذي يتسلل عبر النافذة.
كان صديقي معروف حينها وحيدا في الغرفة.
-ـ هناك مكانك يا حاجّة، نامي حتى الصباح.
ثم استلقى هو في مكانه كالعادة متأملا قامته القصيرة.
-ـ ياك متحشم متراعي علاش جبتني هنا شنو بغيتي ديرلي.نت متحشم ....
وبنبرة العقاب كانت توجه له كلاما قاسيا كأنما أتى بها من حديقة الأمراء إلى سجن زاويرا.
لم يفهم معروف شيئا مما يحدث ثم التزم الصمت لوقت. وفجأة تغيرت نبرة العجوز-ـ التي لم تعد تبصر إلا قليلا-ـ إلى عبارات الحب والرومانسية.
-ـ (تحبو و تفتش بيدها) أين أنت؟ أين أنت؟ تعالى عندي ها أنا تعالى كي أرى كم قلوة لديك واحدة أم أكثر.
حاول صديقي أن يفهم شيئا مما يحدث، عبثا حاول، باطلا أعاد الكرة غير مرة، ظلت كلمة قلوة تتكرر في ذهنه وهو يتأمل صورتها في الضوء الخافت. كانت قواطع فكها العلوي قد سقطت ونبت على شفتها العليا زغب يبدو مثل السنابل الشاحبة.
ظلت تلثلث وتبحث عنه في الظلام وتراوده عن نفسها، لم يجد معروف حلا سوى استغلال عميها وتذكر لحظات لعبة الغميظة، تقرفص في زاوية الغرفة منتظرا رحمة الشمس تطرق بابه لتخلصه من الحيزبون. بين فينة وأخرى يغير نبرة صوته إلى القساوة لعله يثنيها عن رغبتها في عناقه والتأكد من عدد قلواته.
-ـ أ نعسي ..نعسي أوا نعسي تماك ...
-ـ فينك أجي راه مشافنا حد ..أجي هينا ..
إنها ليلة نحسة. تبا للقلب الحنون. وبينما معروف مشدود في زاوية الغرفة يتقاسم لحظات الضحك والبكاء، والعجوز الخبيثة تحاول إقناعه كي يوريها شيئا من المستور، سمع مناديا ينادي أمي أمي. أطل من النافذة فإذا بجاره -ـ  ابن الظالة -ـ يبحث عن أمه.
-ـ هيه أمك معي..؟ أقصد هنا في الغرفة.
صعد الرجل مسرعا وعلى محياه يبدو الغضب كأمواج عاتية. دخل الغرفة المظلمة تقريبا شكر معروف كثيرا على معروفه، ثم جر العجوز جرا يخرجها من الغرفة، وبادرت بالقول : إنه كان يريد أن يفعل لي ذلك الشيء ...
صدم معروف صدمة لم يعهدها من قبل واحتج دفاعا عن كرامته. أي شيء..؟؟ ماذا تقول؟؟
-ـ لا تواخذها يا بني ولا تواخذني إن أمي حمقاء.
-ـ حمقاء ...
همهم معروف تبا للجنون.

1 التعليقات:

محمد يقول...

قصة جميلة اخدت جماليتها من واقعيتها

إرسال تعليق